قال أفلاطون: “الحاجة أم الاختراع”، وهي الحكمة التي انطبقت بكل معنى الكلمة خلال جائحة “كوفيد-19” التي شهدت إطلاق موجة من الابتكارات وجيلاً كاملاً من روّاد الأعمال في كل قارة وقطاع تقريباً. وتعد الرقمنة من أبرز المجالات التي تشهد نموّاً هائلاً منذ بداية الجائحة؛ من خدمة العملاء عن بُعد والعمل الافتراضي إلى إعادة ابتكار سلاسل التوريد واستخدام الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة لتحسين العمليات. وقد قاد روّاد الأعمال الصغار الكثير من خطط إنعاش المشهد الاقتصادي، ففي الربع الثالث وحده من عام 2020، كان هنالك أكثر من 1.5 مليون تطبيق جديد للأعمال في الولايات المتحدة، أي حوالي ضعف الرقم المسجّل في الفترة نفسها من عام 2019.
ويؤدّي هذا الواقع الجديد إلى تسارع وتيرة التغيير، مصحوبةً بزيادة الرقمنة التي تتطلب من الشركات اتخاذ قرارات أسرع للحفاظ على تنافسيتها في بيئة يمكن وصفها على الأقل بأنّها حافلة بالتحديات. وباعتبار وظائف المالية جزء استراتيجي يتيح فرصة الوصول الفريدة إلى البيانات المالية وغير المالية، نشهد اليوم اعتماداً متزايداً عليها حتى لدى الفرق القيادية للشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وذلك بهدف دعم قرارات الأعمال من خلال رؤى مدعومة بالبيانات الدقيقة.
ومن شأن التحوّل الجاري في وظائف المالية والمحاسبة العالمية – الذي يسهّل تحويل التركيز الأساسي على المحاسبة وإعداد التقارير والرقابة إلى التركيز على التحليلات المتطوّرة ونظم دعم القرار الاستراتيجي – أن يجعل مدراء المالية والمحاسبة يدعمون المهارات الرقمية والتحليلية والاستراتيجية لفرقهم.
وبينما يتطوّر تحوّل الوظائف المالية في كافة أنحاء العالم من مهمّات الإشراف على البيانات إلى مهمّات خلق القيمة ودعم القرار، تبرز الحاجة إلى وظيفة التمويل المرن.
وتعتمد الجدوى طويلة الأجل لوظيفة التمويل على مدى ترسيخ المرونة في الثقافة. فمن الضروري ألّا يتم الاقتصار على توفّر المرونة في وظائف التمويل، بل يجب أيضاً اعتماد نهج مرن للتحوّل بحد ذاته. وهذا قرار يثمر تسليماً أسرع للقيمة وكفاءة أكبر ومبادرات تحوّل مستدامة تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من المؤسسات التي تدعمها الوظائف.
وقد يزيد تضمين المبادئ المرنة في طرق عمل الفريق المالي من التعاون والانخراط بين الفرق. ويمكن ترجمة هذه الفوائد إلى قيمة أعلى مستمدّة من نتائج المشاريع وسرعة تسليمها.
ويشتمل تبنّي ثقافة مرنة على إبراز مجموعة من الخصائص الشاملة التي تعزّز السلوكيات الحيوية والشاملة والمسؤولة؛ ومع ذلك تمتد أيضاً هذه المرونة إلى التنفيذ التشغيلي. ومن شأن التسليم التشغيلي القائم على منهجية تطوير البرمجيات المرنة “scrum” أن يمكّن الفرق من البدء في إعادة تعريف نهج التسليم التقليدي، إلى جانب تطوير طرق عمل مرنة تدريجياً. وعند الاستفادة من منهجية “scrum” في المبادرات الرقمية القائمة على تكنولوجيا المعلومات وفي خطط التسليم التدريجي المتكرّر لعمليات التمويل والمحاسبة الأساسية، فإنّ الوظيفة المالية تلعب دوراً فريداً كشريك تجاري تعاوني يركّز على استراتيجيات خلق القيمة.
وإنّ تبنّي المرونة في النواحي الاستراتيجية والتكتيكية، إلى جانب تشجيع ثقافة التعلّم من الأخطاء والتجارب، عبارة عن ضمانة لتمييز فرق العمل بعقلية التعاون وبقابلية تكييف العمليات وبالاندفاع الدائم للتحسين المستمر. كما يتم إعداد وظيفة التمويل المرن علىى أساس ضمان النتائج المالية والمساهمة في القرارات الاستراتيجية في مواجهة ظروف السوق المتغيّرة والوتيرة المتسارعة للتغيير وأي ظروف غير متوقعة. لذلك يجري تشجيع المدراء الماليين والمراقبين وأخصائيي المالية والمحاسبة وأيضاً الطلاب على تطوير خبراتهم في البرمجية المرنة (scrum) لتحسين الأداء الفردي والوظيفي والتنظيمي، وبالتالي تعزيز عرض القيمة للوظيفة المالية على مدى عقود قادمة.
وّيمكّن استخدام المنهجيات المرنة في إدارة المشاريع (agile وscrum) لإعادة تعريف المقاربات المعتمدة للأنشطة الأساسية، مثل التخطيط والتحليل الماليين والتدقيق الداخلي والإغلاق المالي، أن يهيّئ المحاسبين الإداريين لتقديم دعم أفضل في العدد غير المسبوق من مبادرات التحوّل التي تبدأها الشركات اليوم. وعلاوة على ذلك، يمكن لوظيفة التمويل المرن أن تثمر عن الارتقاء بالنتائج وتعظيم القيمة وتسريع التسليم وبالتالي تمكين الشركات من التكيّف مع الأولويات المتغيّرة مع تزويدها بالمرونة والرؤى المدعومة بالبيانات.
لم تعد المرونة مجرّد ميزة تطمح لها الشركات؛ بل إنها شرط أساسي للنجاح. وبالنسبة للوظيفة المالية، فالمعنى المباشر للافتقار إلى المرونة هو خطر خسارة فوائد التحوّل العالمي الجاري اليوم وبالتالي تعطيل كافة الوظائف، كما أن الرؤى المستمدّة من النماذج التحليلية تصبح أقل قيمة إذا لم يدركها قادة الأعمال في الوقت المناسب لاتخاذ القرارات الحاسمة. ولا يمكن لفرق التخطيط والمحاسبة المالية صياغة الاستراتيجية إذا بقيت الاقسام الإدارية نفصلة وفرص الرقابة والتعاون محدودة. ونظراً لأن مستقبل الوظائف المالية سيتشكل عبر نجاح التحوّل الجاري، يُعد دمج المرونة في الثقافة التنظيمية للوظيفة المالية جزءاً لا يتجزأ من هذا النجاح.