مدير التحرير

وفاء رمضان
Search
Close this search box.

مدير التحرير

وفاء رمضان

مصطفى البلك يكتب لـ”المؤشر الاقتصادي”: “لا تفهمونا غلط” على المسرح القومي… طارق الدسوقي يُبدع في قلب مأساة “الملك لير”

طارق دسوقي، الفنان القدير الذي يحمل في جعبته تاريخًا فنيًا طويلًا، عاد إلى خشبة المسرح القومي المصري في واحدة من أضخم الإنتاجات المسرحية، “الملك لير” لوليام شكسبير، ليؤكد مجددًا أنه صوت فني لا يُنسى. رغم غيابه المتقطع عن الساحة الفنية، سواء في السينما أو المسرح، يبقى دسوقي رمزًا للفن الهادف، حاملًا مشعل الإبداع النقي الذي يحترم عقل ووجدان الجمهور. وقوفه على خشبة المسرح القومي في هذا العرض الشكسبيري العظيم يمثل لحظة فارقة، حيث التقى تاريخ المسرح المصري العريق مع تألق فنان استطاع أن يجسد شخصية معقدة مثل جلوستر بحرفية نادرة.
في مسرحية “الملك لير”، يجسد طارق دسوقي شخصية جلوستر، الإيرل المخلص للملك لير، والذي يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين ولائه كأب وإخلاصه لملكه. هذه الشخصية، التي تُعد مرآة لمأساة لير نفسه، تحمل أبعادًا إنسانية وفلسفية عميقة، حيث تتناول موضوعات الخيانة، العمى الحرفي والمجازي، والمعاناة التي تؤدي إلى التنوير. دسوقي، بأدواته التمثيلية المتقنة، قدم الدور بحضور طاغٍ، جعل الجمهور يعيش لحظات إخلاص جلوستر وألمه وسقوطه المؤلم. في تصريحاته، أشار دسوقي إلى أن “جلوستر يمثل الإنسان الذي يرى الحقيقة متأخرًا، وهو اختبار حقيقي لأي ممثل”، وهو ما ترجمه على الخشبة بأداء جعل النقاد والجمهور يشيدون بقدرته على تجسيد الوجع الإنساني.

مشاركة طارق دسوقي إلى جانب الفنان الكبير يحيى الفخراني، الذي قدم دور الملك لير للمرة الثالثة في مسيرته، أضافت زخمًا هائلًا للعرض. التناغم بين النجمين كان واضحًا في كل مشهد، حيث استطاعا معًا أن يخلقا كيمياء فنية نادرة، عززت من قوة النص الشكسبيري وجعلت العرض تجربة لا تُنسى. إخراج شادي سرور، مدير المسرح القومي، كان له دور كبير في إبراز طاقات دسوقي، حيث أتاح له مساحة ليُظهر عمق الشخصية من خلال حركة مدروسة وتفاعل مع الديكور والإضاءة، اللذين صُمما بعناية ليعكسا التحولات النفسية للشخصيات.

طارق دسوقي، الذي قدم أكثر من 40 مسرحية خلال مسيرته، منها 18 على مسارح الدولة، يُعد عاشقًا حقيقيًا للمسرح. يرى فيه بيت الفن الأول، حيث يتجلى الإبداع في أنقى صوره. مسيرته الفنية، التي تمتد لعقود، تتسم بالالتزام بالفن الراقي، بعيدًا عن الابتذال أو السطحية. دسوقي، بروح مصرية أصيلة، يحمل في أدائه عبق النيل وشموخ الأهرامات، مما يجعل تألقه في “الملك لير” متوقعًا لمن يعرف قيمته الفنية. دوره كجلوستر ليس مجرد عودة إلى المسرح، بل هو إعلان عن حضور فنان يحمل رسالة فنية بحب وصدق، كما عبر في تصريحاته: “مسرحية الملك لير هي عودة كبرى للمسرح الكلاسيكي، ويشرفني أن أكون جزءًا من هذا العمل الضخم”.

شخصية جلوستر، التي قدمها دسوقي، تُعد من أكثر الشخصيات تعقيدًا في المسرحية. في البداية، يظهر جلوستر ساذجًا، يثق بابنه إدموند الذي يخدعه برسالة مزورة تجعل إدغار، ابنه الشرعي، يبدو خائنًا. هذا العمى المجازي يتحول إلى عمى حرفي عندما يفقد عينيه كعقوبة لإخلاصه للير، في مشهد مروع يُبرز هشاشته الإنسانية. دسوقي استطاع أن ينقل هذا التحول ببراعة، من السذاجة إلى اليأس، ثم إلى الإدراك المتأخر للحقيقة، مما جعل الجمهور يعيش مع الشخصية لحظات ألمها وندمها. تصريحاته عن الدور تؤكد وعيه العميق به، حيث وصف جلوستر بأنه “مرآة للوجع الإنساني في مواجهة الخيانة والانكسار”.
العرض نفسه، تحت إشراف الدكتور أيمن الشيوي، يعكس رؤية طموحة لإحياء المسرح القومي كمنارة ثقافية. الديكور، الذي صممه حمدي عطية، والإضاءة من تصميم محمود الحسيني، والملابس التي أبدعتها علا علي، كلها ساهمت في خلق حالة بصرية تكمل أداء دسوقي والفخراني. مشهد العاصفة، على سبيل المثال، كان تحفة بصرية عززت من الصراع الداخلي للشخصيات. هذا التناغم بين عناصر العرض جعل “الملك لير” تجربة متكاملة، حيث كل تفصيلة وضعت بدقة لتخدم النص والأداء.
الصديق العزيز الفنان القدير طارق الدسوقي معروف بالتزامه بالفن الهادف، حيث يختار أدواره بعناية شديدة، رافضًا الأعمال السطحية أو المبتذلة. في لقاءاته، دائما يؤكد “الجانب المادي ليس كل شيء”، مشيرًا إلى أن رصيده في البنوك “صفر” رغم انه شارك في اكثر من 80 مسلسلًا، واكثر من 15 فيلمًا، و40 مسرحية، لأن الأولوية بالنسبة له هي تقديم محتوى يحترم الجمهور ويعزز الوعي. هذا المبدأ جعله يبتعد عن الفن لمدة كبيرة، حيث ركز على أنشطة أكاديمية كأستاذ للدراسات العليا بجامعة القاهرة، وشارك في محاضرات بمعهد إعداد القادة، معبرًا عن استيائه من “تدمير جيل كامل” بسبب غياب الفرص للفنانين المخلصين.
عودة طارق دسوقي إلى المسرح القومي ليست مجرد مشاركة في عرض مسرحي، بل هي تأكيد على مكانته كفنان يحترم جمهوره وفنه. دوره في “الملك لير” يُظهر قدرته على تجسيد شخصيات معقدة تحمل أبعادًا إنسانية عميقة، مما يجعله شريكًا أساسيًا في نجاح العرض. الإشادة النقدية والجماهيرية التي حصدها تؤكد أن دسوقي ليس فقط فنانًا موهوبًا، بل رمزًا للإبداع المصري الأصيل. هذا العرض، الذي يجمع بين عراقة المسرح القومي وتألق نجوم مثل دسوقي والفخراني، يُعد شهادة على قدرة المسرح المصري على تقديم أعمال عالمية بروح محلية، تثري الوعي وتحتفي بالإنسانية.

مصطفي البلك
[email protected]

فيسبوك
تويتر
واتسآب
إيميل
طباعة

أقرأ ايضاً